السبت، 21 ديسمبر 2024

07:05 م

محمد مطش يكتب: البيروقراطية فشل في الابتكار وزيادة في الفساد

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2024 10:34 ص

محمد مطش

محمد مطش

لا شك ان سير الأمور في أي هيئة أو شركة أو مؤسسة، لابد أن يحكمها ضوابط ومعايير محددة، ومعروفة لدى جميع العاملين بها ومن يتعاملون معها، للاستجابة لمطالبهم وتحقيق رغباتهم ومصالحهم بسهولة واقتدار. لكننا نمر ومنذ فترة طويلة وللأسف بما يعرف بالبيروقراطية، وهي مصطلح ينتمي للعلوم السياسية والاجتماعية، يشير إلى سلطة الموظفين وتطبيقهم للقانون بالقوة في المجتمع الوظيفي، وعادة ما يكون تطبيق وتوزيع السلطة حسب السلم الإداري أو بطريقة هرمية، تتصف البيروقراطية والبيروقراطيين بالروتين، وبطء التنفيذ، والتمسك بحرفية القواعد والجمود، مما يصب في عرقلة شؤون المواطنين، ويزيد في ذلك كثرة الموظفين. ينتج عن هذا عرقلة سير الامور وتعطيل الإجراءات الخاصة بالمواطنين، للحصول على حقوقهم ومطالبهم وقضاء احتياجاتهم. وللبيروقراطية أشكال متعددة، فنجد مثلا وضع العراقيل أمام المستثمرين فتمنعهم من اقامة المشاريع العملاقة، التي تعود بالنفع عليهم وعلى مصالح البلد التي يقيمون عليها المشاريع، كما اننا نجد صورا للبيروقراطية في المؤسسات كالمستشفيات والمراكز العلاجية عند صرف العلاج أو دواء معين، أو حجز غرفة بالعناية المركزة لمريض، أو اللجوء لقسم الطوارئ إن لزم الامر، ويترتب على كل هذا وذاك وفاة المريض، نتيجة قيود البيروقراطية وعراقيلها، مما يرسخ صورة ذهنية سيئة لدى أقاربه وذويه. ليس هذا فحسب، ولكننا نجد صورا أخرى للبيروقراطية في المدارس والمعاهد والجامعات والمنشآت التعليمية، يترتب عليها تعطيل اوراق طالب للالتحاق بجامعة معينة، أو للنقل الداخلي من قسم لآخر داخل الجامعة الواحدة، وقد يحرم طالب من الانضمام للمدينة الجامعية، وقد تعلق نتيجة طالب لحين استكمال اوراق محددة يمكن بدونها تسير الامور. وتكون النتيجة من كل هذه العراقيل والقيود غير المنطقية ضياع مستقبل الطالب او فقدانه لفرصة عمل قد لا تأتى مرة اخرى. 

تتشعب وتتوغل صور البيروقراطية في قطاعات عدة داخل المجتمع، منها المرور والجوازات والجمارك والموانئ ومعظم الهيئات والمصالح الحكومية، والتي لا تقوم بتذليل العقبات وتسهيل الإجراءات للمواطنين، بل انها تزيد من الاعباء كل كاهل المواطن، بسبب ترسخ البيروقراطية داخلها.
ولذا وجب على الدولة اتخاذ اللازم للقضاء على هذه الظاهرة، وهناك بعض الأمور يمكن مراعاتها حول هذه القضية الشائكة اهمها؛ إعادة النظر في الهيكل التنظيمي للجهاز الإداري الذي يحصر سلطة اتخاذ القرار في يد واحدة، ولا يعتد بالتفويض أو اللامركزية، وغياب الحوكمة والمساءلة والمحاسبة، أو تعيين الموظفين بشكل عشوائي في أجهزة الدولة سابقا، مع تنفيذ قرار مجلس الوزراء باعتماد القرارات المنبثقة عن ندوة تطوير الأداء الحكومي، ومن بينها وضع رؤية ورسالة لكل جهة حكومية، وإيجاد دليل واضح للخدمات الحكومية المعنية وميثاق خدمة المتعاملين، ومعايير جودتها وآلية تقييمها، مع التركيز على معايير تقييم الخدمات وطريقة قياسها والبدء فورا بالتنفيذ مع المتابعة المستمرة، وإصدار تعليمات واضحة لكل رؤساء الوحدات الحكومية بالاجتماع بمديري العموم والمديرين، وهم بدورهم يجتمعون بكافة الموظفين الآخرين وإبلاغهم بالسياسات التي يجب اتباعها، لتبسيط المعاملات وتقديم كل المساعدة للمراجعين والشركات، وأي تهاون سوف يتم مواجهته بسلسة من الإجراءات الإدارية، ابتداءً من رسالة تحذير للموظف، مرورا بالخصم من راتبه، ووصولا إلى إنهاء خدماته، ويكون ذلك مدعوما بنص قانوني، وعلى كل وحدة حكومية وضع صناديق للشكاوى لا يستطيع أن يفتحها إلا موظف محدد من رئيس الوحدة أو المؤسسة أو وكيلها. وتقوم كل وحدة حكومية بتحديد الفترة الزمنية المعقولة لإنجاز أية معاملة أو إجراء، وإذا لم يقم الموظف المحدد بإكمال الإجراءات في حدود تلك الفترة، يتم مساءلته عن السبب، وإنزال العقوبة بحقه، أو تعديل الإجراءات لتسريع المعاملة مستقبلا، بما يتناسب مع السرعة المستهدفة. ويجب إعادة النظر بصورة جذرية في مفهوم الوظيفة العامة، وتغليب منطق الخدمة والعائد على منطق السلطة، فالموظف يتلقى راتبه من مجموع المستفيدين منه، أي من كافة أفراد الشعب وبالتالي هو مدين لهم، ولا يملك أية سلطة عليهم، وعليه تقديم أفضل خدمة وبإجراءات سريعة لهم، وهذا ليس مساعدة منه للمواطنين، وإنما كون ذلك من صميم واجباته.

وكل ذلك يتطلب العمل على إيجاد ثقافة تنظيمية، تهتم بثقافة العمل ورفع كفاءة الأداء بطريقة اقتصادية، وتطبيق مفاهيم القطاع الخاص، مع العمل على إعادة تدريب جميع الموظفين بصورة مكثفة ومستمرة، بما في ذلك القيادات، من قبل خبراء مختصين، وإيجاد معايير واضحة في التوظيف والاختيار، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتطبيق مبدأ المساءلة والمحاسبة والجزاء والعقاب والحوكمة، وربط الترقية وزيادة الراتب بالأداء والإنتاجية وليس بعامل الزمن، اضافة إلى ذلك خصخصة عدد من الخدمات التي تقدمها الدوائر الحكومية المختلفة، منها على سبيل المثال وليس الحصر، المصادقة على خرائط ورسوم وتراخيص البناء، وشهادة الإكمال والتصديق على الاتفاقيات والعقود، ومنها عقود بيع وشراء العقارات أو تأجيرها، والقيام بمكننة تنظيف الشوارع وخصخصتها، وإجراء الاختبارات على السلع المختلفة،  الإسراع في إنشاء الحكومة الإلكترونية بشكل متكامل، والتي تأخرت كثيراً. والتي تبذل وزارة الاتصالات جهودا لتطبيقها، تمهيدا لتطبيق إستراتيجية الحكومة الذكية. من الآن وحتى تطبيق الحكومة الإلكترونية، يجب توحيد الإجراءات في مقر حكومي افتراضي واحد، يضم جميع الجهات الخدمية المسؤولة ومنحها الصلاحيات اللازمة، لتتمكن الجهة الراغبة بإنهاء إجراءاتها من ذلك المبنى دون عناء أو تعب، مع تشارك الجهات الخدمية في إنهاء الأعمال الخاصة بأية معاملة خلال مدة زمنية قصيرة يتم تحديدها، إجراء استطلاعات مستمرة مستقلة لمعرفة مدى رضا المراجعين أفرادا كانوا أو مؤسسات من الخدمات المقدمة في الوحدات الحكومية، والاستفادة من التغذية الراجعة بما ينعكس على جودة الأداء، وتقليل الهدر في الوقت والجهد والمال،  إيجاد قناة تواصل مباشرة بين مجلس الوزراء والمجتمع، لتوضيح كل ما يحدث وبشفافية تامة، وتلقي أي بلاغ أو شكوى بكل أريحية والرد عليها بشفافية واضحة، كما يتطلب الأمر تشكيل فريق عمل لمراجعة كل الإجراءات والتشريعات الحكومية، تمهيدا لتعديلها ووضع خطة واضحة ومتابعتها.
وختاماً، يتضح لنا أن البيروقراطية ليست مجرد نظام إداري معقد، بل هي عائق حقيقي يقف في وجه التقدم والتنمية الاجتماعية. لقد أثبتت التجارب على مر الزمن أن هذه الآلية قد تؤدي إلى تفشي آفات اجتماعية مدمرة، مثل الفساد والرشوة، التي تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين وتعيق مسيرتهم نحو الأفضل. وبالتالي، بات من الضروري إعادة النظر في كيفية تنظيم الأعمال والعمليات الحكومية، بحيث تكون أكثر مرونة وفاعلية. إن التخلص من القيود البيروقراطية يحتاج إلى إرادة حكيمة وحازمة، استنادًا إلى فهم عميق لحاجة الشعب ومطالبه. كما يجب أن تكون المؤسسات العامة أكثر انفتاحًا على الأفكار الجديدة، وأن تفكر مليًا في كيفية تيسير الإجراءات، وتقديم خدمة متكاملة للجميع، مما يسهم في تعزيز الثقة بين المواطن والدولة.
لقد حان الوقت لنضع حدًا لهذه الظاهرة، ولنخلق بيئة خالية من التعقيدات الإدارية، التي تعرقل التنمية وتفتح المجال لممارسات سلبية. إن مسؤوليتنا جميعًا، كأفراد وكيانات حاكمة، أن نعمل على بناء مجتمع تسوده قيم النزاهة والشفافية، لنتمكن من الارتقاء ببلادنا إلى المكانة التي تستحقها بين دول العالم. فالتغيير يبدأ منا وعلينا أن نعمل معًا لنصبح سفراء للإصلاح والتجديد.

search