السبت، 02 نوفمبر 2024

03:28 م

أحمد الأنصاري: أن تكون رقماً

الجمعة، 18 أكتوبر 2024 05:21 م

أحمد الأنصاري

أحمد الأنصاري

حدثني متأثراً صديقي يونج، بعد أن ارتشف قليلاً من الشاي الكشري الذي دعوته إليه على قهوة تحمل كل معاني المصرية في بلاد الغربة، عن تجربة أن تعيش رقماً في بلادك، وكيف يحكم مصيرك ومستوى الخدمات التي تحصل عليها من حكومتك، رقم يقيموك به.
يقول يونج أن لكل مواطن في دولته رقم، وأن نظاماً الكترونياً دقيقاً ومتطوراً يراقب نشاط كل رقم (مواطن يعني) على الشبكة العنكبوتية وفي مكالماته وسلوكياته في الشارع والعمل من خلال كاميرات متطورة، وبناء على تعاطيه مع الأخرين والتزام بالسير مع التيار يتم منحه تقييم وبناء على تقييمه يتم تحديد الخدمات التي تمنح له من الحكومة أو يحرم منها.
فرت الدمعة من عيني يونج وتنهنه قائلاً "هل تتخيل يا صديقي أن تكون قيمتك في الحياة هي مجرد رقم، هل تتخيل أنني في أحد المرات لم أستطع أنهاء معاملاتي أو الحصول على خدمات تأمين صحي من المستوى الأول وأحالوني للمستوى الثالث لمجرد أنني تحدثت عن أملي في زيادة ما يتم منحه لنا كبدل للأطفال.
أكمل يونج حديثه ممتعضاً من إغلاق حكومته لكافة وسائل التواصل الاجتماعي وحتى محركات البحث العالمية، وتجبره على استخدام أخرى محليه، حتى يكون رقماً يسهل التعامل معه.  
استرسل يونج في شرح قشور الألم النفسي التي يعاني منها لأنه يشعر أنه رقم. حقيقة لا أتذكر تفاصيل استرساله لانشغالي بسحب نفس طويل من الشيشة واخراج دخانها من أنفي ولكن دون صوت، منتظراً أن ينتهي حتى اخرج الصوت.
أنهى العزيز يونج (شنهفته) وتحسره على حاله وعلى كرامته وإنسانيته التي يرى انها تسرق منه وتنتهك يومياً، لأنه ببساطه يريد أن يكون (يونج) وليس رقماً.
هنا جاء دوري فأخذت بخاطره (وناولته الشيشة)، وقلت له، عزيزي اشعر بمعاناتك جيداً لكن دعنى اخبرك بقصة (يونج) أخر، فذاك اليونج يعاني أيضا من أنه رقم، لكن الاختلاف بينكما أنه اعتاد مجبراً أن يكون رقما، وكان حمولاً طالما هذا الرقم يترك له نفساً في رئته يحيا به، بس أقولك ايه جاءت الرياح بما لا يشتهي أي حد ولا حتى الرياح نفسها.
يونج (الاخر) الذي اخبرك عنه يكره ويلعن انه رقماً، لأن كونه رقماً بات يجلب عليه الكثير من الأرقام السوداء بعيد عنك، زي ما تقول كدا، كل شهر أو شهرين بيرفعوا عنه ارقام الدعم، وبيرفعوه هو نفسه بزيادة ارقام سلع كتير، يونج دا يا أخويا يونج، بات يقتطع من الأرقام المفترض أن تنفق لتحسين حياته لتخصص للكثير من العربات الحديدة المربوطة ببعضها، ليتنقل بسهوله، بس ارقام استخدم هذه العربات زاد عن قدرته، واصبح هذا اليونج يخشى أن يصحو يوما على أحد أقاربه أو معارفه بات رقماً في قائمة ضحايا حوادث هذه العربات الحديدية أو أن يدخل هو نفسه هذا القائمة فيصبح ذكرى رقم.
يونج الأول بدأت عيناه تتسع مما احكي وسحبه لأنفاس الشيشة بات اقوى مع اخراج صوت خفيف من الانف (معرفش اتعلمه فين ابن العفاريت)، فطلبت منه أن ينتظر فمازلنا في البداية.
يونج الأخر يا صديقي كان منذ ولادته رقما عادياً في طابور ارقام، ثم تحول لرقم معذب يلعن حظه يومياً ويحاول ان يتعايش بقليل الأرقام التي يتقاضاها شهرياً نظير عمله، أملا أن يكبر أولاده الأرقام ويساهموا في ادخال ارقام أخرى تعينهم على الحياة، لكن لأنه فقري، الدنيا اتلخبطت، وحكومته قال ايه يا سيدي، جعلته هو وأبناءه وأحفاده وأحفاد أحفاده مديونين بأرقام كتير قوي قوي مع أنه مشفش منهم ولا رقم.
يونج الأخر لديه رقم للحصول على كشف وعلاج طبي، بس الرقم دا نقول عليه بالبلدي كدا (يبله ويشرب ميته)، لإنه بيقف في طابور ارقام عشان يشوف الطبيب، ثم طابور ارقام اخر للحصول على العلاج، ليفاجئ انه مفيش علاج، أصله مش متوافر الأيام الكتير قوي دي، مع أن واحد من كبار حكومته وعده ووعد غيره كتير قوي أنه في غضون أسبوعين إلى شهر سيحل هذا الامر، لكن يبدو أنه لم يحدد أي أسبوعين أو شهر بالضبط.
يونج الاخر كان راضي وعايش (شويه أرز وأي خضار ولو ربنا كرم يبقى في ظفر) على اد ارقامه الشهرية، لكن الرفع المطبق على الأرقام حرمه من حاجات كتير، ولأن حكومته عاوزه ارقام باللون الأخضر عشان تسدد دفعات الأرقام التي تداينت بها وأدانت معها يونج، قررت من ضمن القرارات أنها تصدر كل حاجة، أقصد الحاجات اللي كانت ماتزال متاحة ليونج من خضار وسكر وادوية إن وجدت.
يا صديقي يونج، أن تشتكي من حظر حكومتك لوسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث العالمية، واتاحت لك أخرى محليه لتراقبك وتقييمك بناء عليها وتقرر حجم الخدمات التي ستقدمها لك، وهو أمر قاسي، لكن يونج الأخر في الوقت الذي تركته حكومته يتصفح ويتواصل اجتماعياً، كانت تراقبه أيضا، وفي حال ابدى اعتراضه أو عبر عن رأيه فغالبا سيحمل رقما ًعلى بدله زرقاء.
اخبرته أن الفارق كبير أن تكون مواطناً يحمل رقماً ويشتكي منه، على ان تكون مجرد رقماً بلا قيمة يُستغل طوال الوقت ويحلم ان يكون مواطناً.
كنت ما أزال مسترسلاً في حكاوي ارقام يونج الأخر، لصديقي يونج الأول، لأسمع صديقي يونج ينادي بصوت عالي (يا حماااادة الحساب هنا عند الأستاذ) ثم القى الشيشة من يده، وغادر القهوة متمتاً بكلام كثير لم افهمه.

search