الإثنين، 04 نوفمبر 2024

08:26 م

ما حكم تلحين القرآن وتصويره فنيا.. الافتاء تجيب

الأحد، 22 سبتمبر 2024 02:45 م

السيد الطنطاوي

دار الإفتاء المصرية

دار الإفتاء المصرية

قال فضيلة الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية الأسبق، عن حكم تلحين القرآن الكريم: لا يجوز شرعًا قراءة القرآن الكريم مع تلحينه تلحينًا موسيقيًّا؛ لكون هذا العمل يخرج القرآن عن جلالته وقدسيته، ويصرف السامع عن الخشوع والخضوع عند سماعه، ويجعله أداة لهوٍ وطربٍ، وكل عمل يخرج كتاب الله عن غايته يعد عملًا منكرًا لا يقره الدين، ويجب علينا عند قراءته مراعاة الرجوع إلى ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابه والتابعين، وكذلك لا يجوز تصوير القرآن تصويرًا فنيًّا؛ لما في ذلك من مفاسد يجب منعها؛ كتصوير الأنبياء ونحوه مما هو محاط بالقداسة في الشريعة الإسلامية.

ولبيان حكم تلحين القرآن الكريم تلحينًا موسيقيًّا، هناك جواب نقلي وعقلي:

أما النقلي: فما جاء في مقدمة الإمام الطبري والقرطبي من أن العلماء قالوا: إن المعلوم على القطع والبينات أن قراءة القرآن تلقينًا متواترةٌ عن كافة المشايخ جيلًا فجيلًا إلى العصر الكريم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس فيها تلحينٌ ولا تطريبٌ مع كثرة المتعمقين في مخارج الحروف وفي المد والإدغام وغير ذلك من كيفية القراءات، ثم إن في الترجيع والتطريب همزُ ما ليس بمهموزٍ ومَدُّ ما ليس بممدود، فترجع الألفُ الواحدة ألفاتٍ، والواوُ الواحدة واواتٍ؛ فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن، وذلك ممنوعٌ. وإن وافق ذلك موضع نبرٍ وهمزٍ صيَّروها نبراتٍ وهمزاتٍ، والنبرة حينما وقعت من الحروف فإنما هي همزةٌ واحدةٌ لا غير إما ممدودةٌ أو مقصورةٌ.
فإن قيل: فقد روى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسيرٍ له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته"، وذكره البخاري، وقال في صفة الترجيع: آء آء آء ثلاث مرات.
قلنا: ذلك محمولٌ على إشباع المد في موضعه، ويحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبًا من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب، وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه، وقد خرّج أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رضي الله عنهم قال: "كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المد ليس فيها ترجيع".

وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذن يطرب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ؛ فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ سَمْحًا سَهْلًا، وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ» أخرجه الدارقطني في "سننه"، فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد منع ذلك في الأذان فأحرى أن لا يجوزه في القرآن الذي حفظه الرحمن؛ فقال وقوله الحق: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وقال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]. قلت: وهذا الخلاف إنما هو ما دام يفهم معنى القرآن بترديد الأصوات وكثرة الترجيعات، فإن زاد الأمر على ذلك حتى لا يفهم معناه فذلك حرام بالاتفاق.
ذكر الإمام الحافظ أبو الحسين رزين وأبو عبد الله الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اقرأوا الْقُرْآن بِلُحُونِ الْعَرَب وَأَصْوَاتهَا، وَإِيَّاكُم وَلُحُون أهل الْعِشْق وَأهل الْكِتَابَيْنِ؛ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ قوم من بعدِي يرجعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيع الْغناء والرهبانية وَالنوح لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ».
واللحون جمع لحن؛ وهو التطريب وتحسينه بالقراءة والشعر والغناء، قال علماؤنا: ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرؤون بها ما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والترجيع في القرآن: ترديد الحروف كقراءة النصارى، والترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف؛ تشبيهًا بالثغر المرتل وهو المشبه بنَور الأقحوان وهو المطلوب في القراءة؛ قال الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرۡءَانَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]، وسئلت أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالت: "ما لكم وصلاته؛ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح" ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة ميسرة حرفًا حرفًا. أخرجه النسائي، وأبو داود، والترمذي، وقال هذا حديث حسن صحيح غريب. اهـ. انظر: مقدمة القرطبي في "تفسيره" (1/ 15-17، ط. دار الكتب المصرية).
وللمرحوم مصطفى صادق الرافعي بحث قيم بعنوان "قراءة التلحين"؛ نذكر منه ما يأتي: ومما ابتدع في القراءة والأداء هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتناقله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرؤون به على ما يشبه الإيقاع وهو الغناء النقي، ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم: الترعيد؛ وهو أن يرعد القارئ صوته؛ قالوا: كأنه يرعد من البرد والألم. والترقيص؛ وهو أن يروم السكون على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنه في عدو أو هرولة. والتطريب؛ وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به؛ فيمد في غير مواضع المد، ويزيد في المد إن أصاب موضعه. والتحزين؛ وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع. ثم الترديد؛ وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه، وإنما كانت القراءة تحقيقًا أو حدرًا أو تدويرًا. والتحقيق: إعطاء كل حرف حقه على مقتضى ما قرأه العلماء مع ترتيل وتؤدة. والحدر: إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة شروط الأداء الصحيحة. والتدوير: التوسط بين التحقيق والحدر. فلما كانت المائة الثانية كان أول من قرأ بالتلحين والتطنين عبيد الله بن أبي بكرة وكانت قراءته حزنًا ليست على شيء من ألحان الغناء والحداء، فوَرِثَ ذلك عنه حفيدُه عبد الله بن عمر بن عبيد الله فهو الذي يقال له قراءة ابن عمر وأخذها عنه الإباضي، ثم أخذ سعيد بن العلاف وأخوه عن الإباضي، وصار سعيد رأس هذه القراءة في زمنه وعرفت به؛ لأنه اتصل بالرشيد فأعجب بقراءته وكان يحظيه ويعطيه حتى عرف بين الناس بقارئ أمير المؤمنين، وكان القراء بعده كالهيثم وأبان وابن أعين وغيرهم ممن يقرؤون في المجالس والمساجد يُدخلون في القراءة ألحان الغناء والحداء والرهبانية، فمنهم من كان يدس الشيء من ذلك دسًّا خفيًّا، ومنهم من يجهر به، فمن هذا قراءة الهيثم: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾؛ فإنه كان يختلس المد اختلاسًا فيقرؤها لمسكين، وإنما سلخه من صوت الغناء كهيئة اللحن في قول الشاعر: أما العطاة فإني سوف أنعتها نعتًا يوافق عندي بعض مفيها؛ أي: ما فيها.
وكان ابن أعين يدخل الشيء من ذلك ويخفيه حتى كان الترمذي محمد بن سعيد في المائة الثالثة، وكان الخلفاء والأمراء يومئذ قد أولعوا بالغناء وافتَنُّوا فيه، فقرأ محمد هذا على الأغاني المولدة المحدثة سلخها في القراءة بأعيانها، وقال صاحب "جمال القراءة": إن أول ما غني به في القرآن قراءة الهيثم ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ﴾ كما تقدم، فلعل ذلك أول ما ظهر منه، ولم يكن يعرف مثل هذا شيءٌ لعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا لعهد أصحابه وتابعيه إلا ما رواه الترمذي في "الشمائل" واختلفوا في تفسيره؛ فقد روى بإسناده عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناقة يوم الفتح -فتح مكة- وهو يقرأ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ۞ لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ قال: فقرأ ورجع، وفسره ابن مغفل بقوله: آآآ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثلاث مرات.

إن المتعبد يفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. اهـ. انظر: كتاب "إعجاز القرآن" (ص: 44-45، ط. دار الكتاب العربي).

ويكفينا هذا في الدليل النقلي الذي يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن قراءة القرآن يجب أن يراعى فيها الرجوع إلى ما كان عليه الناس في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والتابعين وليس فيها ترجيع أو غناء، وإذا كان المسلمون قد بدؤوا بعد المائة الأولى من الهجرة بأن عدلوا عن القراءة على هذا النحو فإن ذلك يعتبر بدعة في قراءة القرآن أي في أمر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بكتاب الله الذي نزل على رسوله وسمعَهُ الرسول من الوحي، وقرأه عليه ونقله إلى أصحابه كما سمعه، وهذه البدعة التي ابتدعها الزنادقة ليصرفوا الناس عن ذكر الله وعن قراءة القرآن كما قرأها الرسول وأصحابه من أخطر البدع؛ لأن الله تعبدَنَا بفهم معاني القرآن والعمل بأحكامه، وتعبدنا أيضًا بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة التي تلقاها العلماء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان هذا هو رأي العلماء في قراءة القرآن على صورة التلحين والغناء والتطريب وهو المنع والتحريم، فإن من المقطوع به أنهم يحرمون بالأولى إخضاع القرآن للنغمات الموسيقية وقراءته قراءة مصحوبة بالآلات الموسيقية والتغني به.

 

search