السبت، 02 نوفمبر 2024

07:33 م

مصطفى الشيمي يكتب: شرفة جارتنا الفقيدة

السبت، 14 سبتمبر 2024 10:54 م

مصطفى الشيمي

مصطفى الشيمي

منذ اللحظات الأولى، وأنا أخطو بخطوات كلها قلق ورعب، فى البداية ظللت مشدودة إلى هذا الصراع الكبير خلف ستارة الشرفة، إلا إنى بحكم وجودي وسط تلك الأحداث وهذه الأصوات منذ أيام، وجدت نفسي أتسلل وأتابع الأمر عن قرب رغم تظاهرى بالإهمال الشديد و فقد الحماس.. اذ كان يحدث شيئا جديد على الكمبوند الهادئ ،  لم استطيع تصديقه ولا لعقلي قدرة على هضمه واستيعابه.. فقد رحلت جارتنا الأرملة مع ابنتها الوحيدة وتركوا الشقة التى تقابلنا فى العمارة المواجهة  ..! وسكنها  شاباً أعزب لا أحد معه لا زوجة  ولا  أم  ولا  طفل..

.. نوافذ الشقة المقابلة كلها مفتوحة إذ بشاب مفتول العضلات يمر بين الحجرات نصفه الأعلى عاريًا ثم يخرج إلى  الشرفة و يسد الافق أمامى ..  والغريب أنه كان واضحًا من أول لحظة ، فكانت نظراته جريئة ومصوبه مباشرتاً  ناحية  شقتي .. كان ينظر أيضا على المارة في الشارع دون قلق من أن  يلومه أو يناقشه احد فيما يفعل . ظل هكذا واقف يغنى بصوته القبيح متحديا الجميع  .. كانت نظراته توحى بأنه  حصان بلا سرج ، ذكرني بزوجى " أحمد " قبل الزواج...!

الشاب سكن أمامنا ولا يفصلنا عنه غير الشارع وسوف تكون إقامته دائمة.. ولكن بعد دقائق قليلة استحوذ الجار الجديد على عقلى وكدت أن اخنق تلك الفتاة التي ضحكت له أسفل العقار ، وقمت بلعنها فى سرى و رمقتها بنظرة خرساء حتى تعود إلى بيتها أو تركز في طريقها ومستقبلها أفضل .
أغلقت البلكونة فى هذة الليلة وأنا أفكر فى هذا الشاب وأنتظر صباح اليوم التالى حتى أعيد فتحها بنفسى و أسمع صوت  هذا الاعزب المرتفع يأتي إلىّ عبر الشارع.

المهمة ليست سهلة .. مساكين هؤلاء الرجال ونواياهم الحسنة ...  أيستحق ؟ بالطبع يستحق  .. ليس هناك رجل لا يستحق ..حتى الموفون منهم زائغو الأعين ، كاذبون  يتظاهرون بالحب ...
" أحمد " كان  يحبنى  ويتظاهر أمام الجميع بهذا الحب .. ولكنى متأكده أنه كان يتمنى أن تسكن هذه الشقة احدى الحسناوات العازبات أو أرملة وحيدة تحتاج إلى عطف وعطاء ، كانت هذه الأمنية معلنة وفى وجهه نظر " أحمد " هي لا تتنافى أبدا مع درجة إخلاصه لى ، فزوجى لا يترك اى لفظ  يتبعه تاء مؤنثة إلا ويسلط عليه انظاره و يعاين بنفسه ويهتم ولا يوقفه وجودى  و  إذا كانت الظروف مواتية فما المانع ،  عشت معه سنين وهو يرى أن هذه هي الطريقة المثلى لتجديد حبه لى لأنه مع كل مرة كان يستشعر الندم تجاهي ويحاول بقدر الإمكان تلبية طلباتي بدون سبب أو طلب وكأنه يكفر عن ذنب ...
قبل اربعة أشهر كنا على العشاء ، بدأ " أحمد " يسوق مقدمات عن حقوق الرجل وضرورة الامتثال إلى أوامره فى كل نواحي الحياة ، كان نقاشه يحمل رائحة خبيثة و طعم ماسخ  ، نتج عنه إكراهى على ارتداء النقاب ...! لم يطرح الفكرة بأنه هذا الرداء  أمر أخلاقي أو يحاول ان يحافظ الود بيننا و يتبادل النقاش ويسمعنى ولكنى تأكدت يومها انه  يستخدم مظهرى للحفاظ على شكله كرجل وحتى لا يتمكن أحد من رؤية وجهي . حاول إقناعي بأنه من صميم الدين بينما هو  لا يعرف اتجاه القبلة ... استجمع كل ذكائه وقدرته على الاقناع ليثبت لى ان الأمر دافعه الغيرة وليس الشك وأنه يريد حجب النظر و البحلقة عنى .. ولم يأت الغد إلا وقد اشترى لها اثنا عشر نقاب مختلف ألوانه .

.. ارتديته  و ملابسى أصبحت  مسدلة أجرها على الأرض ، بل و أضع " بيشة" تغطى عينى فوق النقاب ، أنا "صاحبه الخيمة " ، نعم حفظنى الرداء كثيرا من نوبات البرد وغدر الهواء الذى يعصف بالملابس  ، ولكنى كثيرا ما كنت أقع في أخطاء لا تتناسب مع هذا التظاهر الشكلى  ، فكم من مرة خضعت بالقول مع بائع الخضار ، وكم مره أصاب البواب نعومه صوتى و ارتبك ، وكم مرة وقف السائق شريداً من رائحة عطري ، وكم مرة وافق البائع على خفض سعر الملابس الى النصف لمجرد انى داهمته بعينى .. لم اراعى أبدا تلك الذين فى قلوبهم مرض بل ضغطت بكل قوة على مواطن الضعف والمرض  ...! .  كنت كثيرا ما  اخطئ وادخل البلكونه بملابس لا تستر إلا ما بين السرة والركبة حتى صادفت مره وخرجت  ببجامتي الحمراء الحرير ولم اتذكر نقابى المسدل،  وجدت هذا الاعزب  أمامي ، وكأنه كان ينتظرني ..  نظراته لى فيها عناية خاصة ربما لغرابة شكلي وأنا متحررة الزى، ربما لحرص "أحمد" على تأمين الشقة بستائر  ثقيلة وكثيفة  تمنع دخول النسمة إلينا .  لمحنى الفتى وتأكد  لماذا اختبأت من العيون ... ربما ترك  عمله واصبح شغله الشاغل أن يقضى يومه فى البلكونة ينتظر حركة الستارة الكثيفة و يحرك خياله المشحون بالحرمان فكلما داعب الهواء الستارة  انتفخت عروقه بدمه الفائر و اعتقد انى خلف الستارة  وثم يركز بصره على البلكونه ويتخيل هذه الستارة الداكنه وكأنها ستارة شفافة .
" أحمد " لم يتزوجنى إلا بعد أن شبع من الحياة وخرج من تجاربه وهو فاقد الثقة فى اولئك وهؤلاء ، كان الكل فى حالة ترقب ينتظر كيف ستتعثر علاقتنا و أياً منا  سيبدأ ... ربما شهدت المئات  الذين بدأوا  حياتهم بالربيع وسقطت أوراقهم على الأرض بسبب خريف الأيام .. الحقيقة هي مغامرة اندفعت إليها مثل العشرات على أمل أن أصل إليه  أولاً وأكون أنا  أول من انطلق واسرع فى تحقيق الهدف .. ولكنى وجدت أن  المركز الاول قد  يصاب بخيبة أمل وأن الذي أسرعت إليه هو اندفاع حول بئر عميق لا نهاية له.. ربما لا أحد يتوقف ليرى النهاية مادام ليس هو الصارخ ويظل يظن أنه الاقوى والسليم الذى لم يسقط  ، حتى يتعثر ويقف فى صف المعذبين والمجنى عليهم  فى الارض

 .. أناس كثيرة تجرى وتسعى بلا سبب واضح غير أنهم يسعوا و يستمروا لا إرادياً، استمرارًا يعجز المعظم عن إيقافه ... ربما أنا الآن اندفع مسرعة إلى بئر آخر أملاً أن يخفت رنين الجرس الخانق المعلق فى رقبتى وحتى يطغى بصوته ليمحو تلك الصرخة الاولى.. فقد كنت كالشيء الذي يبرق فى  الأرض يعبر عليه الناس دون وعى حتى رآه عابر سبيل و حدق فيه وانحنى وتناوله  وراح يضحك من نفسه ومن البريق الزائف الذى شغله والذى راح ضيائه لمجرد انه التقطه من على الأرض واستحوذ عليه .

" أحمد " عائدا من السوق يحمل شنط بلاستيكية داكنة ، و كما اعتاد ان  يلقي نظرتين مباختتين  الى بلكونه الجار ثم إلى شرفتى ، اذا به  يشتعل غضباً بسبب أنه لمح  الاعزب يصوب نظراته الحميمة  إلى البلكونه وشعر أن هناك حركة خفيفة وراء الستارة .. فى لمح البصر كان يفتح الباب ودخل يبحث عنى فى البلكونة .. جاء صوتى من المطبخ أقول : انت جيت يا حبيبى ... 
لم يرد واحضر الخادمة وسألها هل كانت ستك " منى " فى البلكونة منذ لحظات ، أجابت " لا يا سيدى دى من أول النهار مطحونه فى المطبخ عشان تعملك الاكل اللى بتحبه ، ولو تقصد حركة الستارة اللى فى البلكونة  دا الهوا يا سيدى الهوا اللى بيحركها .... "
صمت " أحمد " وهدأ و جفف عرقه  وأتجه إلى المطبخ و راح يقبل جبينها  محاولاً أن يكفر عن ذنبه ويغسل الشك بين يديها  بالسكينة والراحة .

search