السبت، 02 نوفمبر 2024

09:26 م

مطلوب على وجه السرعة

الجمعة، 02 أغسطس 2024 08:06 ص

وفاء أنور

وفاء أنور

وفاء أنور

كنا جميعًا في الماضي ننظر إلى معلمينا ومعلماتنا نظرة إكبار، نابعة من شعور بالتبجيل والاحترام، تسكن نفوسنا منهم بعض من رهبة ممزوجة بشعور بالشكر والامتنان، كان هذا يحدث في كل مرة نتحدث فيها معهم أو ربما بمجرد النظر إليهم، كنا نسعى لإرضائهم وتنفيذ تعليماتهم، فهم في جميع الأحوال لا يتمنون لنا إلا النجاح والتوفيق في هذه الحياة، تلك رسالتهم التي وضعها القدر على عاتقهم، قدرهم هو عملهم في نفس المكان لسنوات عديدة من أجل تحقيق آمال وأهداف طلاب وطالبات.


حان الوقت في هذا العام الجديد لدراسة مادة العلوم بعد تقسيمها في الصف الأول الثانوي إلى "كيمياء وفيزياء وأحياء" كانت أبلة "إحسان" كما كنا نناديها هى معلمتنا الفاضلة التي أسند لها مهمة تدريس مادة الأحياء، كانت معلمتنا كبيرة في السن حديثها هاديء، ربما كانت تلجأ لذلك كي تسكتنا حتى نتمكن من سماع صوتها، كما كانت حركتها وردود أفعالها بطيئة إلى حد ما.

وكان من بين الدروس المقررة علينا درس تشريح بعض الكائنات الحية، حان موعدنا مع درسها الذي سوف تشرح فيه نظريًا أجزاء جسم -الضفدعة- بتفاصيله الدقيقة، بدأت أستاذتنا الجليلة في شرح تفاصيل كائن حي لم نألفه بطبيعة الحال، فكنت أنا ومن معي من الزميلات لم يسبق لنا التعامل مع هذا الكائن عن قرب، فقط كنا نشاهد صورًا له داخل صفحات الكتب والمجلات، وأحيانًا ضمن محتوى برنامج تخصص في عرض حياة الحيوانات.

كان هذا زمننا وكانت تلك كل وسائلنا المتاحة للحصول على المعلومات، طلبت أبلة إحسان من كل طالبة منا أن تأتيها بضفدعة حية أو أكثر؛ لكي تقوم بتشريح واحدة منها أمامنا لنتبع بعدها نفس الخطوات، بشرط أن هذا سبيلنا الوحيد في الحصول على الدرجات، وفجأة علت الأصوات وتداخلت وبقى منها سؤال نطق به الجميع: نجيبها منين يا أبلة؟ وبدأت نظرات التعجب والاستغراب تغزوان المكان، كانت الصيحات مرفقة ببعض النكات التي تلتها الكثير من الضحكات.

قامت معلمتنا المتزنة بالتخلي عن هدوئها وحكمتها البالغة مرغمة، حيث قامت بنهرنا جميعًا وهى غاضبة، ثم قالت: "روحوا أي جنينة واطلبوا من الجنايني المسئول عنها يجيب لكم ضفدعة وادفعوا له مبلغ بسيط مقابل تعبه خلصت الحكاية ومش عايزة كلام" وهكذا أخذ الموقف طابع الجدية وساد الصمت المكان بعد أن كان هذا الحديث مدعاة للسخرية منذ لحظات.

كانت لي زميلة وجارة من بين الطالبات، وفي أثناء طريق عودتنا لمنازلنا تحدثت معها بطبيعة الحال عن هذا الأمر الذي كان يشغلني، وهو كيفية الحصول على ضفادع لأبلة إحسان، فإذا بها تعثر على حل عاجل في لحظات، سرحت قليلًا ثم  قالت بكل ثقة" ما تقلقيش أنا ها قول لجارنا أبو عصام يجيب لنا معاه كام واحدة وهو راجع من شغله" فقد كان هذا الرجل الطيب يعمل بستانيًا في أحد حدائق حي القلعة، وقد كان؛ غربت الشمس وحل المساء وجاءنا أبو عصام بضفادعه الثلاث، كانت أحدهما ممتلئة للغاية، على عكس رفيقاتها الصغيرات الضعيفات، أخذت هى الضفدعة الأولى، وأعطتني الاثنتين الأخريات.

أسرعت بهما إلى منزلنا، وطلبت من "أمي" رحمة الله عليها أن تجد لي حلًا يحفظ لهاتان الضفدعتان الحياة حتى الصباح، جاءت أمي بعلبة بلاستيكية ثم أحدثت بغطائها بعض الثقوب والفتحات، ووضعت داخل العلبة بعض من أوراق الخس فربما تجوعان فتأكلان، وجاءت لحظة إخراجهما من الكيس ونقلهما للعلبة، فوقفت بعيدًا أترقب؛ فجميعنا يعلم قدرة الضفادع الهائلة على القفز لمسافات، وأخيرًا تمت المهمة بنجاح.

بقيت الضفدعتان داخل هذه العلبة حتى الصباح؛ كانت كل طالبة منا تقف بحسب ترتيبها في قائمة الأسماء؛ تنتظر تسليم هذا الكائن المزعج منتظرة حصولها على الدرجات، وحانت لحظة إعداد قوالب الشمع لتثبيت هذه الكائنات بالدبابيس من الأطراف، كنت في تلك اللحظة أقف بجوار معلمتي فأنا كنت الأخيرة في كشف الأسماء أخذت مني العلبة وأخرجت واحدة منهما، أمسكتها بقوة من أرجلها الخلفية، ثم ضربت رأسها بعنف في أحد أركان درج خشبي ضخم سيتم فوقه تشريح باقي هذه الكائنات.

ودون وعي مني صرخت فجأة، قائلة:"حرام" وكانت هذه هى الطامة الكبرى بالنسبة فقد اعتبرته اتهام لها بعدم الرحمة فأصابتها نوبة غضب مني ومن هذه الكلمة التي نطقت بها، وكأنها ابتلعتها فيما بعد فقط لأجل صغر سني أو تقديرًا منها لرهافة حسي، ثم قالت لي بنبرة حادة:"في سبيل العلم مفيش حاجة اسمها حرام" وراحت تحدثني وتنظر للجميع كأنها تريد إثبات براءتها بالدفاع عن نفسها قائلة: "بالعكس أنا كده رحمتها لأني أفقدتها وعيها علشان ما تحسش بالألم أثناء تشريحها"

أدركت هنا أن معلمتي كانت على صواب، فالتجارب من أجل العلم ليست جرمًا، لكني وإلى الآن ما زلت أذكر هذا المشهد، وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول: شكرًا أبلة إحسان.

search