الثلاثاء، 04 مارس 2025

11:22 م

محاكم التفتيش في الأندلس: جحيم التعذيب باسم الدين

الثلاثاء، 11 فبراير 2025 05:32 م

محمد عماد

محاكم التفتيش في الاندلس

محاكم التفتيش في الاندلس

تعد محاكم التفتيش الإسبانية واحدة من أكثر الفصول ظلامًا في تاريخ أوروبا والعالم الإسلامي، حيث مارست الكنيسة الكاثوليكية أقسى أشكال التعذيب والقمع ضد المسلمين واليهود والمسيحيين المتهمين بالهرطقة بعد سقوط الأندلس. 

تأسست هذه المحاكم في نهاية القرن الخامس عشر وبلغت ذروتها في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكانت تهدف إلى ضمان نقاء العقيدة الكاثوليكية، لكنها تحولت إلى أداة للقمع والتعذيب والإبادة الثقافية.

الأندلس تحت الحكم الإسلامي: ازدهار حضاري وديني

قبل سقوط الأندلس، كانت المنطقة نموذجًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود. شهدت مدن مثل قرطبة، غرناطة، وإشبيلية ازدهارًا علميًا وثقافيًا نادرًا، حيث أسهم المسلمون في الفلك، الطب، الفلسفة، والعلوم، وأثروا الفكر الأوروبي بشكل لا يمكن إنكاره.

لكن هذا العصر الذهبي بدأ في الانهيار مع تصاعد حروب الاسترداد المسيحية (Reconquista)، والتي استمرت أكثر من سبعة قرون، وانتهت بسقوط آخر معقل إسلامي في الأندلس، وهو غرناطة عام 1492، بعد أن سلمها الملك أبو عبد الله محمد الثاني عشر إلى الملكين الكاثوليكيين فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى.

نشأة محاكم التفتيش الإسبانية

بعد سقوط غرناطة، تعهد الملوك الكاثوليك في معاهدة التسليم بضمان حرية العبادة للمسلمين واليهود، لكن سرعان ما بدأوا في خرق الاتفاقية. وفي عام 1478، أصدر البابا سيكستوس الرابع مرسومًا بإنشاء محاكم التفتيش الإسبانية، والتي أصبحت أداة رئيسية في فرض العقيدة الكاثوليكية وقمع أي مظهر من مظاهر الإسلام أو اليهودية.

في عام 1502، أصدر الملك فرديناند مرسومًا يجبر المسلمين في إسبانيا على اعتناق المسيحية أو الرحيل، وهو ما أدى إلى تحول كثيرين ظاهريًا إلى المسيحية، لكنهم كانوا يمارسون شعائرهم الإسلامية في السر، وعُرفوا باسم "الموريسكيين".

اعتُبر هؤلاء الموريسكيون خطرًا على الكنيسة، لأنهم - رغم إعلانهم المسيحية - كانوا يحتفظون بلغتهم العربية وعاداتهم الإسلامية، مما جعلهم هدفًا رئيسيًا لمحاكم التفتيش.

وسائل محاكم التفتيش في قمع المسلمين

1. التفتيش الديني والقوانين الجائرة

بدأت محاكم التفتيش في استهداف الموريسكيين عبر مراقبة سلوكهم اليومي، حيث كانت هناك قوانين صارمة تجرّم أي ممارسات قد تشير إلى أنهم ما زالوا يمارسون الإسلام، مثل:

  • الامتناع عن أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر.
  • الاستحمام بشكل متكرر (لأن المسلمين اشتهروا بالنظافة والوضوء).
  • ارتداء الملابس التقليدية.
  • إقامة صلوات سرية أو التحدث باللغة العربية.
  • الامتناع عن العمل أيام الجمعة (بدلًا من الأحد).

إذا وُجدت أي علامة من هذه العلامات، كان يتم استدعاء الشخص للتحقيق، وهو ما كان يعني في أغلب الأحيان بداية رحلة التعذيب والموت.

2. أساليب التعذيب الوحشية

كانت محاكم التفتيش تستخدم أساليب تعذيب مرعبة لاجبار المتهمين على الاعتراف بالهرطقة، ومن بينها:

  • الطاحونة (La Garrucha): يتم تعليق الضحية من يديه المقيدتين خلف ظهره، ثم يُسحب بالحبال لأعلى قبل أن يُترك ليسقط بعنف، مما يؤدي إلى تمزق المفاصل والعضلات.
  • الكرسي الحديدي: كرسي مغطى بمسامير حادة يُجبر الضحية على الجلوس عليه، ثم يُربط بإحكام حتى تنغرس المسامير في جسده.
  • التمديد والتشويه (The Rack): يُربط الضحية على إطار خشبي ويتم سحبه من أطرافه حتى تتمزق أوصاله.
  • الإغراق القسري: يتم تكميم فم الضحية وصب الماء في حلقه بكميات كبيرة حتى يختنق.
  • الحرق على الأعمدة (Auto-da-fé): بعد انتزاع الاعترافات تحت التعذيب، كان يتم تنفيذ حكم الحرق علنًا، حيث يُجبر "المذنب" على ارتداء زي خاص يسمى "سامنيتو"، ثم يُربط على عمود ويُحرق حيًا أمام الجموع.

3. محاكمات وهمية وظلم ممنهج

لم تكن محاكم التفتيش تبحث عن الحقيقة، بل كانت تعتمد على اتهامات كيدية وشهادات زور، حيث كان يمكن لأي شخص أن يتهم جاره أو أحد أفراد عائلته بممارسة الإسلام، وغالبًا ما كانت هذه الاتهامات تُستخدم لتصفية الحسابات الشخصية أو الطمع في ممتلكات الآخرين.

لم يكن للمتهمين محامٍ، ولم يُسمح لهم بمواجهة شهودهم، وكانت الأدلة تعتمد على أقوال مجهولين أو اعترافات انتُزعت تحت التعذيب.

النتائج الكارثية لمحاكم التفتيش

1. إبادة الهوية الإسلامية في الأندلس

بحلول القرن السابع عشر، كانت الهوية الإسلامية في الأندلس قد اختفت تقريبًا، حيث تم حظر اللغة العربية، وأُغلقت المساجد، وأُحرق مئات الآلاف من الكتب الإسلامية والعلمية في الساحات العامة، بما في ذلك مكتبة غرناطة الشهيرة.

2. تهجير الموريسكيين ونهاية وجودهم في إسبانيا

رغم محاولات الموريسكيين التكيف مع الظروف القاسية، استمرت محاكم التفتيش في اضطهادهم، مما دفع الملك فيليب الثالث إلى إصدار مرسوم عام 1609 بطرد جميع الموريسكيين من إسبانيا. وخلال السنوات التالية، تم ترحيل مئات الآلاف إلى شمال إفريقيا، حيث استقروا في المغرب، الجزائر، وتونس، بينما غرق آلاف آخرون أثناء محاولتهم الفرار بحرًا.

3. إرث من القمع والكراهية

تركت محاكم التفتيش أثرًا دائمًا على تاريخ إسبانيا، حيث أدت إلى قرون من الجهل والتخلف، بسبب اضطهاد العلماء والمفكرين، كما ساهمت في نشر الكراهية الدينية والتعصب، وهي مفاهيم استمرت حتى العصور الحديثة.

تمثل محاكم التفتيش في الأندلس واحدة من أحلك الفترات في التاريخ الإنساني، حيث تم اضطهاد مئات الآلاف من المسلمين واليهود وحتى المسيحيين بتهمة "الهرطقة"، في ظل سلطة دينية مطلقة لم ترحم أحدًا. ورغم مرور قرون على هذه الأحداث، إلا أن إرثها الدموي ما زال حاضرًا في الذاكرة، ليكون شاهدًا على مدى قسوة التعصب الديني حين يمتزج بالسلطة والقهر.


حدث في مثل هذا اليوم: 12 فبراير عبر التاريخ .. ميلاد كانط وشلتوت و بدء محاكمة التفتيش في الاندلس

الأرصاد الجوية: أمطار علي هذه المحافظات ورياح نشطة وبرودة شديدة ليلًا غداً الأربعاء 12 فبراير 2025

حالة الطقس غدً الأربعاء 12 فبراير 2025 بارد نهارًا وشديد البرودة ليلًا في أغلب أنحاء البلاد

search