السبت، 21 ديسمبر 2024

06:51 م

باسم عوض الله يكتب: بساتين الصالحين تعلو خزائن الأسرار

الإثنين، 16 ديسمبر 2024 11:14 ص

باسم عوض الله

باسم عوض الله

يظن بعض البشر أن الكنوز تنحصر في شكلها الدنيوي من ذهب وفضة وأموال وتراب يملك ترابا...! فيما أن هناك كنوز خفيَّة بِقلوب وأرواح من وقع عليهم أسهم الاختيار القدسية لتضعهم برتبة المصطفين على قمم البشر. فكما أن هناك جبالا تُخفي بأحشائها مناجم، هناك أناس يخفون بداخلهم ملاحم، منهم من كتب عليه القَدَر أن يُعرَف برسالته ومهمته بالدنيا، ومنهم كُتب عليه أن يتوارى بين جنبات الدنيا مؤديًّا مهمته في صمت، لكن كُلًّا منهما له مقامه عند رب العزة.

دعونا إذن نستفيض حديثنا على نحو أكثر عمقًا، حيث إن أصحاب المهمات والمقامات من المصطفين من البشر هم الرسل والأنبياء وأولياء الله الصالحين سلام الله ورضوانه عليهم أجمعين، وكُلٌّ منهم له صفته وشأنه ورتبته ورسالته، لكن ما استوقفني ولِأجله ساد السكون أرجاء الكون هو هَول ما يحملون من علم لدنيّ ودعاء مستجاب، وقوة روحانية على الأرض وفي السماء... إلخ من زخم النِّعم التي وهبها لهم الخالق عز وجل، لكنهم في بُرهة الزمن نفسها تجدهم وهم بِقِمَم مُلكِهم الروحاني على قدرة عظيمة وجليلة من التواضع، بلمسات حانية مع عامَّة وخاصَّة الناس.

ومن محطة التواضع نرتحل سويًّا بصحبة الصالحين إلى محطة الرضا الروحاني، حيث أن رُتب ومقامات العارفين بالله والرسل والأنبياء تصل أحيانًا إلى مرحلة تكون معبأة بالكرامات والعلوم السماوية والروحانية، لدرجة لا تسعهم أن يتحملوا أسرارًا أخرى -التي من شأنها التَّرَقِّي-؛ لأنه في بعض الأحيان يكونون بِزمنٍ لا يتوافق مع قدراتهم، فحرصًا منهم على من حولهم إن كانت قدراتهم لن تتحمل ولن تستوعب فيكتفي الصالحون بما لديهم، حتى لا يعرضون العوام والخواص للسقوط في أيَّة اختبارات أو ذنوب. ولذلك نجد الصالحين يضطرون أن يُخفوا ما لديهم من علم، مستخدمين ما يشبه القَطَّارة لِمَنح الجرعات والأسرار، فنجدهم -إن جاز الوصف والتعبير- مثل رئيس الجامعة الذي يتعامل مع أطفال بمرحلة الروضة، ولنا أن نتخيل في مثل ذلك الحال ما يُبذل من جهد واجتهاد وجهاد، وتحمل وصبر وسِعة صَدر، وثبات انفعالي وهدوء، ورصانة ورزانة وحصافة... إلخ من أسمى الصِّفَات وأرقى السِّمَات.

لذلك استرعى انتباهي عدم تسليط الأضواء بشكل كاف على ذلك المنظور الخطير؛ وهو مدى العناء والشقاء النفسي والروحاني والبدني، المبذول من حضرة الرسل والأنبياء والصالحين سلام الله عليهم ورضوانه؛ لِتَبَنِّي العقول والقلوب والأرواح بشتَّى مراتبها وقدراتها، في حين أنهم يملكون من العلم والقدرات والكرامات... إلخ ما ينطبق عليه الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله قال (من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.

يا أيها الإنسان الحبيب الغالي، إن سئمت من مشاكسات الحياة، وشعرت أن الهموم عليك جبالًا، فلتلعم أن هناك نمطا آخر من الأعباء، فليست الأعباء كلها ابتلاءات ونِقَم، فهناك من الأمانات والنِّعَم أثقال لم تحملها الجبال لكن حملها الإنسان.

من أجل ذلك يا أحبتي، فإن مجاورة الرسل والأنبياء والصالحين غاية كان يسير لها المريدون - هم يعلمون مدى خطورتها - في الأزمنة الساحقة آلاف الأميال، لكن من النوايا ما تطرق الأبواب فتفتح لها دون أن يشقى صاحبها، وكما تعلمنا من مناقب العارفين بالله رضوان الله عليهم أجمعين "طريق الهدى لمن صَدق وليس لمن سَبق"، ولهذا فإن بساتين الصالحين الظاهرة للخاصة والعامة، تُخفي تحتها كنوزًا من الأسرار لا يعلمها إلا العاطي الوهاب. فيا رب السماوات والأرض ندعوك بأن نكون لائقين بمجاورة الصالحين، ومما رزقتهم من النفحات نغترف ومما منحتهم من البركات نرتشف.

search