السبت، 21 ديسمبر 2024

07:21 م

السيد الطنطاوي يكتب: إن كيدكن عظيم!!

الخميس، 05 ديسمبر 2024 01:19 م

السيد الطنطاوي

السيد الطنطاوي

عندما يغضب البعض من المرأة أو يرى منها ـ من وجهة نظره ـ أمراً لا يسره ولا يعجبه، يبرز لها المقولة الشهيرة "إن كيدكن عظيم". وهذه المقولة التي انتشرت ويتداولها الجميع وخاصة الرجال "إن كيدكن عظيم"، هي جزء من آية من آيات القرآن الكريم، تضمنتها سورة يوسف عليه السلام، “أحسن القصص”، كما جاء في أول السورة “نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ  إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ”. والسؤال هل الوصف الذي وصُفت به زوجة العزيز في الآية الكريمة وهو “الكيد العظيم”، كان وصفا من خالق المرأة والرجل سبحانه وتعالى، أم وصف جرى على لسان شخص أو إنسان للسيدة “زليخة”، وعلى واقعة محددة، وليس عن مجمل وعدد من الوقائع، أو هو نعت أو وصف لشخصية الأنثى بشكل عام، بأن كيدها عظيم، وأعظم من كيد الرجل، ومن كيد الشيطان نفسه، الذي ذُكر في القرآن الكريم أن كيده ضعيف، قال تعالى: "إن كيد الشيطان كان ضعيفا". من خلال هذه الآيات ومن سياقها، نجد أن مقولة "إن كيدكن عظيم" تتبع العزيز وكلمة منه شخصيا لامرأته على ما قامت به تجاه سيدنا يوسف من مَكرٍ وكَيْد لتُراوِده عن نفسه، وطريقتها الذكية في محاولة التخلص من موقفها مع زوجها، عندما رأته عند الباب. أما كيد الشيطان، فرغم أن الكثيرين "يهولون" من قدراته وأفعاله وألاعيبه ووساوسه، وبرغم كل هذه التهويلات، نجد أن الله سبحانه وتعالى يضع الشيطان وقدراته، وكل أفعاله وألاعيبه ووساوسه في حجمها الطبيعي!! وفي صورة واضحة حتى لا نتخيل أننا أمام "هرقل" أو "سوبر شيطان"، ونعمل له ألف حساب!! ونحيا في الدنيا وليس في مخيلتنا إلا هذا العدو المتربص بنا بالليل والنهار، بل إن البعض يظن أو يعتقد، بأن الشيطان جالس في كل طريق يسير فيه، وأن هذا الشيطان "ما قدموش حد غيره"، يزعجه ويدله على أوجه الشرور، ويحثه حثا على فعلها، ويمكن أن يدفعه إليها دفعا أو يأخذ بيديه نحوها!! دون أن يكون للإنسان أي ردة فعل، لردع هذا الشيطان العاطل عن العمل، إلا الجري وراء بني آدم!!. الإمام الرازي رحمه الله يرى في معنى هذه الآية أن المراد بها “أن كيد الشيطان ضعيف، وأنه لا يقدر على أن يضر، وإنما يوسوس، ويدعو فقط، فإن اتُبع لحقت المضرة، وإلا فحاله على ما كان، فهو بمنـزلة فقير يوسوس لغني في دفع ماله إليه، وهو يقدر على الامتناع، فإن دفعه إليه، فليس ذلك لقوة كيد الفقير، لكن لضعف رأي المالك”!!. بقراءة سورة يوسف أحسن القصص، نرى أن كلمة أو لفظة "الكيد" وردت ثلاث مرات، لنكون أمام ثلاثة أنواع من "الكيد"، أولها “كيد الرجال” وذكر ذلك في أول سورة يوسف، في قوله سبحانه في الآيتين 4 و5 "إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ". إذن فإن "كيد الرجال" في السورة سبق “كيد النساء”، حتى لا يكون أحد أحسن من أحد!!. في تفسير "الجلالين" يفسر قول والد يوسف له "لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيدا..."، أي "يحتالون في هلاكك حسدا لعلمهم بتأويلها من أنهم الكواكب، والشمس أمك، والقمر أبوك". 

ثاني ألوان أو أنواع الكيد "كيد النساء" جاء تاليا لـ “كيد الرجال”، والذي ذكر في الآية 28 "فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ". 

النوع الثالث من الكيد، هو كيد من نوع خاص، نراه في الآية 76 من سورة يوسف "فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ". واللفظ الوارد في الآية “كذلك كدنا ليوسف مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ..”، أي "ألهمنا يوسف ليأخذ أخاه عنده وبحكم شرع والده، وما تعارف عليه هناك في قومهم، وليس بما تعارف عليه في النظام المصري القديم، وهو الضرب وتغريم مثلي المسروق أي ضعفه، وتم ذلك بحكم أخوته أنفسهم تعليما وإلهاما من الله سبحانه". يقول الطبري في تفسيره للآية "هكذا صنعنا ليوسف حتى يخلص أخاه لأبيه وأمه من أخوته لأبيه بإقرار منهم، أن له أن يأخذه منهم ويحتسبه في يديه ويحول بينه وبينهم، وجزاء من سرق الصواع أن من وجد ذلك في رحله فهو مسترق به، وذلك كان حكمهم في دينهم". وفي سورة الأعراف الآية 183 يقول سبحانه ""وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ"، وكيد الله هنا كما جاء في الآية الكريمة، يُمْهِل الله سبحانه وتعالى المشركين، بِظَنِّهِم أنهم لن يُعاقبوا ولن يُؤاخَذوا بما يَقومون به، فيزداد بذلك شَرَّهم وكفرهم وطُغْيانهم، وبالتالي تزيد عقوبتهم وعذابهم عند الله، ومن حيث لا يشعرون يكون قد ضَرُّوا أنفسهم، حتى يكون كيد الله لهم بليغاً وقوياً. يقول القرطبي في تفسير الآية "وأملي لهم إن كيدي متين"، "أي أطيل لهم المدة، وأمهلهم وأؤخر عقوبتهم. وقيل: نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة، بعد أن أمهلهم مدة، ونظير هذه الآية، آية "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة".

search